سورة إبراهيم - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} لما شرح الله عز وجل حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة، شرح أحوال المؤمنين السعداء، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم الجزيل، وذلك أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم والمنفعة الخالصة إليها الإشارة دائمة بقوله: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} وكونها دائمة أشير إليه بقوله: {خالدين فيها} والتعظيم حصل من وجهين أحدهما قوله: {بإذن ربهم} لأن تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله بإنعامه الثاني قوله: {تحيتهم فيها سلام} فيحتمل أن بعضهم يحيي بعضاً بهذا الكلمة أو الملائكة تحييهم بها أو الرب سبحانه وتعالى يحييهم، ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع الآفات لأن السلام مشتق من السلامة. قوله عز وجل: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً} لما شرح الله عز وجل أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ضرب مثلاً فيه حكم هذين القسمين فقال تعالى: {ألم تر} أي بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب في للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره فيه ويحتمل أن يكون الخطاب فيه لكل فرد من الناس، فيكون المعنى ألم تر أيها الإنسان كيف ضرب الله مثلاً يعني بين شبهاً، والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويتصور. وقيل: هو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر {كلمة طيبة} هي قول لا إله إلا الله في قول ابن عباس وجمهور المفسرين: {كشجرة طيبة} يعني كشجرة طيبة الثمرة وقال ابن عباس: هي النخلة. وبه قال ابن مسعود وأنس ومجاهد وعكرمة والضحاك.
(ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني عن شجرة شبه الرجل أو قال كالرجل المسلم لا يتحات ورقها تؤتي أكلها كل حين قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه سلم: هي النخلة» قال: فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً فقال عمر لأن تكون قلته أحب إلي من كذا وكذا وفي رواية: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال هي النخلة».
وفي رواية عن ابن عباس، أنها شجرة في الجنة وفي رواية أخرى عنه أنها المؤمن. قوله: {أصلها ثابت} يعني في الأرض {وفرعها} يعني أعلاها {في السماء} يعني ذاهبة في السماء {تؤتي أكلها} يعني ثمرها {كل حين بإذن ربها} يعني بأمر ربها والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هذا وقال مجاهد وعكرمة: الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقال علي بن أبي طالب: ثمانية أشهر يعني أن مدة حملها باطناً وظاهراً ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس: كل حين يعني غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبداً ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاءً، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت. وقال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل هذه الكلمة التي هي كلمة الإخلاص وأصل الإيمان بالنخلة حاصل من أوجه: أحدهما: أن كلمة الإخلاص شديدة الثبوت في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض. الوجه الثاني: أن هذه الكلمة ترفع عمل المؤمن إلى السماء. كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وكذلك فرع النخلة الذي هو عال في السماء. الوجه الثالث: أن ثمر النخلة يأتي في كل حين ووقت وكذلك ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كل وقت وحين ببركة هذه الكلمة، فالمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءته بركتها وثوابها وخيرها ومنفعتها. الوجه الرابع: أن النخلة شبيهة بالإنسان في غالب الأمر لأنها خلقت من فضله طينة آدم وأنها إذا قطع رأسها تموت كالآدمي بخلاف سائر الشجر فإنه إذا قطع نبت، وأنها لا تحمل حتى تلقح بطلع الذكر. الوجه الخامس: في وجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق لأن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل ثابت، وفرع قائم، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان، وقوله سبحانه وتعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} يعني أن في ضرب الأمثال زيادة في الأفهام وتصويراً للمعاني وتذكيراً ومواعظ لمن تذكر واتعظ. قوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة} وهو الشرك {كشجرة خبيثة} يعني الحنظل قاله أنس بن مالك ومجاهد: وفي رواية عن ابن عباس إنها الكشوت وعنه أيضاً أنها الثوم وعنه أيضاً أنها الكافر لأنه لا يقبل عمله فليس له أصل ثابت ولا يصعد إلى السماء {اجتثت} يعني استؤصلت وقطعت {من فوق الأرض ما لها من قرار} يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له.
قول طيب ولا عمل صالح ولا لاعتقاده أصل ثابت، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة. عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع عليه رطب فقال: «مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال: هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي الحنظلة» أخرجه الترمذي. مرفوعاً وموقوفاً، وقال الموقوف أصح. قوله سبحانه وتعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} والقول الثابت: هي الكلمة الطيبة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، في قول جمهور المفسرين. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بكلمة الشرك قال: في هذه الآية ويضل الله الظالمين يعني بالكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك في قول جميع المفسرين وقوله: {في الحياة الدينا} يعني في القبر عند السؤال {وفي الآخرة} يعني يوم القيامة عند البعث والحساب وهذا القول واضح ويدل عليه ما روي عن البراء بن عازب. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المسلم إذا سئل في القبل يشهد أن لا إله إلله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} قال: نزلت في عذاب القبر» زاد في رواية: «يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم» أخرجه البخاري ومسلم.
(ق) عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس: «وأما المنافق» وفي رواية: «وأما الكافر فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» لفظ البخاري ولمسلم بمعناه زاد في رواية: «أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملا عليه خضراً إلى يوم يبعثون» وأخرجه أبو داود عن أنس قال: وهذا لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا وضع قبره أتاه ملك فيقول: ماكنت تعبد؟ فإن هداه الله، قال: كنت أعبد الله فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد الله ورسوله فلا يسأل عن شيء بعدها فينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقال له: هذا كان مقعدك ولكن عصمك الله فأبدلك به بيتاً في الجنة فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي. فيقال له: اسكن. وإن الكافر والمنافق إذا وضع في قبره، أتاه ملك فينهضه فيقول ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيه فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين» وأخرجه النسائي. أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قبر الميت أو قال إذا قبر أحدكم آتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: كنت أقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد ه ورسوله فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ثم ينور له فيه ثم يقال له: ثم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه، ذلك وإن كان منافقاً فيقول سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثلهم لا أدري فيقولان: قد كنا نعلم أنك كنت تقول ذلك. فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» أخرجه الترمذي. عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهت إلى القبر، ولما يلحد بعد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤؤسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً زاد في رواية قال: إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولو مدبرين حين يقال له: يا هذا من ربك وما دينك وما نبيك وفي رواية يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله فيقولان له وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت، زاد في رواية فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} ثم لقناه قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبد ي فافرشوا له من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره وإن كان الكافر فذكر موته قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولا ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء قد كذب عبد ي فافرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً في النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه في رواية ثم يقبض له أعمى أبكم أصم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبلاً لصار تراباً فيضربه بها ضربة، يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً ثم تعاد فيه الروح» أخرجه أبو داود. عن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل» أخرجه أبو داود. عن عبد الرحمن بن ثمامة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى بكاء طويلاً، وحول وجهه إلى الجدر وجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا فأقبل بوجهه وقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وذكر الحديث بطوله وفيه «فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما أراجع به رسل ربي» أخرجه مسلم بزيادة طويلة فيه قيل المراد من التثبيت بالقول الثابت هو أن الله تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب كثرة مواظبتهم على شهادة الحق في الحياة الدينا وحبهم لها، فمن كانت مواظبته على شهادة الإخلاص أكثر كان رسوخها في قلبه أعظم فينبغي للعبد المسلم أن يكثر من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله في جميع حالاته، من قيامه وقعوده ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته، فلعل الله عز وجل أن يرزقه ببركة مواظبته على شهادة الإخلاص التثبيت في القبر، ويسهل عليه جواب الملكين بما فيه خلاصه من عذاب الآخرة، نسأل الله التثبيت في القبر، وحسن الجواب وتسهيله بفضله ومنه وكرمه وإحسانه، إنه على كل شيء قدير وقوله تعالى: {ويضل الله الظالمين} يعني أن الله تعالى لا يهدي المشركين إلى الجواب الصواب في القبر {ويفعل الله ما يشاء} يعني من التوفيق، والخذلان والهداية والإضلال والتثبيت، وتركة لا اعتراض عليه في جميع أفعاله لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.


قوله عز وجل: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً}.
(خ) عن ابن عباس في قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} قال: هم كفار مكة وفي رواية هم والله كفار قريش. قال عمر: هم قريش ونعمة الله هو محمد صلى الله عليه وسلم {وأحلوا قومهم دار البوار} قال البوار: يوم بدر وعن علي رضي الله عنه قال هم كفار قريش فجروا يوم بدر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فقد كفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فقد متعوا إلى حين فقوله بدلوا نعمة الله كفراً معناه أن الله تعالى لما أنعم على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فأرسله إليهم وأنزل عليه كتابه ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان اختاروا الكفر على الإيمان، وغيروا نعمة الله عليهم. وقيل: يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله عليهم كفراً لأنهم لما وجب عليهم الشكر بسبب هذه النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر، وبدلوه بالكفر وأحلوا قومهم، يعني ومن تبعهم على دينهم وكفرهم دار البوار يعني دار الهلاك ثم فسرها بقوله: {جهنم يصلونها وبئس القرار} يعني المستقر {وجعلوا لله أنداداً} يعني أمثالاً وأشباهاً من الأصنام، وليس لله تعالى ند ولا شبيه، ولا مثيل تعالى لله عن الند والتشبيه والمثيل علواً كبيراً {ليضلوا عن سبيله} يعني ليضلوا الناس عن طريق الهدى ودين الحق {قل تمتعوا} أي قل: يا محمد لهؤلاء الكفار تمتعوا في الدنيا أياماً قلائل {فإن مصيركم إلى النار} يعني في الآخرة. قوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} يعني يقيموا الصلاة الواجبة، وإقامتها إتمام أركانها {وينفقوا مما رزقناهم} قيل أراد بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة، وقيل: أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر وحمله على العموم أولى ليدخل فيه إخراج الزكاة، والإنفاق في جميع وجوه البر {سراً وعلانية} يعني ينفقون أموالهم في حال السر وحال العلانية، وقيل: أراد بالسر صدقة التطوع وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} قال أبو عبيدة: البيع هنا الفداء يعني لا فداء في ذلك اليوم {ولا خلال} يعني ولا خلة، وهي المودة والصداقة التي تكون مخاللة بين اثنين. وقال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولاشراء مخاللة ولا قرابة، إنما هي الأعمال إما أن يثاب بها أو يُعاقَب عليها. فإن قلت كيف نفى الخلة في هذه الآية، وفي الآية التي في سورة البقرة وأثبتها في قوله: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} قلت: الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفي الخلة الحاصلة، بسبب ميل الطبيعة، ورعونة النفس، والآية الدالة على حصول الخلة وثباتها محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة الله ألا تراه أثبتها للمتقين فقط، ونفاها عن غيرهم. وقيل: إن ليوم القيامة أحوالاً مختلفة، ففي بعضها يشتغل كل خليله عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض. إذا كانت تلك المخالة لله في محبته.


قوله عز وجل: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج من الثمرات رزقاً لكم} اعلم أنه تقدم تفسير هذه الآية في مواضع كثيرة، ونذكر هاهنا بعض فوائد هذه الآية الدالة على وجود الصانع المختار القادر الذي لا يعجزه شيء أراده، فقوله تعالى: {الله الذي خلق السموات والارض} إنما بدأ بذكر خلق السموات والأرض، لأنهما أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار، {وأنزل من السماء ماء} يعني من السحاب سمي السحاب سماء لارتفاعه مشتق من السمو، وهو الارتفاع وقيل إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب الى الأرض فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقاً لكم، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر. وقد يقع على الزرع أيضاً بدليل قوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} وقوله: {من الثمرات} بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو الثمرات {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره} لما ذكر الله سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر، وأخراج الثمر لأجل الرزق والانتفاع به ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء، لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات، وغيرها من بلد إلى بلد آخر. فهي من تمام نعمة الله على عباده {وسخر لكم الأنهار} يعني ذللها لكم تجرونها حيث شئتم، ولما كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب أيضاً ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار، وتفجير العيون لأجل هذه الحاجة، فهو من أعظم نعم الله على عباده {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} الدأب العادة المستمرة دائماً على حالة واحدة ودأب في السير دوام عليه، والمعنى أن الله سخر الشمس والقمر، يجريان دائماً فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها. قال ابن عباس: دؤبها في طاعة الله عز وجل. وقال بعضهم: معناه يدأبان في طاعة الله أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير الله عز وجل، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم {وسخر لكم الليل والنهار} يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان، والزيادة وذلك من إنعام الله على عباده وتسخيره لهم {وآتاكم من كل ما سألتموه} لما ذكر الله سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم الله بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر.
والمعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه شيئاً فحذف شيئاً اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض، وقيل: هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} يعني أن نعم الله كثيرة على عباده، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها {إن الإنسان} قال ابن عباس: يريد أبا جهل، وقال الزجاج: هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر {لظلوم كفار} يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه، وقيل: الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم الله عليه. وقيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع. قوله سبحانه وتعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً} يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة. فإن قلت: أي فرق بين قوله اجعل هذا بلداً آمناً وبين قوله اجعل هذا البلد آمناً؟ قلت: الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام. فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها. الوجه الثاني: أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها. الوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضاً أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام. قلت: الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه: فالجواب على الوجه الأول: من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على خراب مكة، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» أخرجاه في الصحيحين. وأجيب عنه بأن قوله: {اجعل هذا البلد آمناً} يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل: هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين. الوجه الثاني: أن يكون المراد اجعل هذا البلد آمنين، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم علو هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: {ويتخطف الناس من حولهم} وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني: فمن وجوه أيضاً: الوجه الأول: أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة التثبيت، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك.
الوجه الثاني: أن إبراهيم عليه السلام، وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء، هضماً للنفس وإظهاراً للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحداً لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد أحد منهم صنماً قط. الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم. الوجه الثالث قال الواحدي: دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص. الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: فمن تبعني فإنه مني، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى: {رب إنهن} يعني الأصنام {أضللن كثيراً من الناس} وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات، وحجارة لا تعقل شيئاً حتى تضل من عبد ها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها {فمن تبعني فإنه مني} يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست مني
أراد ولست من المتمسكين بحبلي، وقيل: معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص {ومن عصاني} يعني في غير الدين {فإنك غفور رحيم} قال السدي: ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم. وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال: ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلماً وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه، وهو يقول أن ذلك غير محظور فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان، والإسلام وتهديه إلى الصواب.
قوله عز وجل إخباراً عن إبراهيم {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم}.
(خ) عن ابن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه؛ فقال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترى أحداً ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم «فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول: بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف» وفي رواية قدر ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا لله تعالى، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً.
فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي، وما فيه ماء فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه سلم: «فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته» أخرجه البخاري بأطول من هذا، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرماً لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره، وقيل: لأن الله حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به، وبحرمته وجعل ما حوله محرماً لمكانه، وشرفه وقيل: لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل: سمي محرماً لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقاً أيضاً لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان. فإن قلت: كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ، وإنما بناه إبراهيم بعد ذلك. قلت: يحتمل أن الله عز وجل أوحى إليه وأعلمه أن هناك بيتاً قد كان في سالف الزمان، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل: يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعين أسكنت قوماً من ذريتي، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو ليكي يقيموا الصلاة {فاجعل أفئدة من الناس} قال البغوي جمع الموفد {تهوي إليهم} تحن وتشتاق إليهم. قال السدي رحمه الله: أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري: وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين.
وقال الجوهري: الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض، قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي: يقال هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول: رأيت فلاناً يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضاً تهوي تسرع إليهم، وقال ابن الأنباري: معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين وقال ابن الأنباري: معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس: يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم. وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس الزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته {وارزقهم من الثمرات} يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكو المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقوله تعالى: {لعلهم يشكرون} يعني لعلهم يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم، وقيل: معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.

1 | 2 | 3 | 4